د. محمد سليم يكتب ..العمل المؤسسي وفراغ الدرجات الوظيفية… استدامة المؤسسات تبدأ من الداخل
الثلاثاء 06-05-2025 15:08

إلحاقًا لما طُرح في المقالات السابقة حول أهمية تحرير سوق الطاقة، تظهر الحاجة الملحّة إلى ترسيخ العمل المؤسسي المنظم وحوكمة الأداء داخل الشركات القابضة والشركات التابعة، لا سيما التابعة لوزارات قطاع الأعمال العام، والبترول والثروة المعدنية، والكهرباء والطاقة المتجددة.
إن غياب التنظيم المؤسسي، وتكدّس السلطات في يد شخص واحد يجمع بين رئاسة مجلس الإدارة وعضوية عدة مجالس في الشركات التابعة، لا يُعبّر فقط عن خلل في توزيع الأدوار، بل يُهدد فعليًا كفاءة واستدامة الأداء المؤسسي.
إن الغرض من هذا المقال ليس الإشارة إلى أفراد بعينهم، وإنما تسليط الضوء على المنظومة العامة التي يجب أن تتصف بالحوكمة والشفافية والمؤسسية في اتخاذ القرار، من خلال فصل السلطات، وتوزيع الأدوار، وتمكين الكفاءات.
الهياكل التنظيمية… بين الرأسية والمسطحة والمصفوفة
ضمن ما تم تدريسه في برامج إعداد القادة، برعاية الجامعة الأمريكية، تناولت الدراسة أشكال الهياكل التنظيمية للمؤسسات حسب طبيعة نشاطها، وتوزيع السلطات فيها. ونذكر هنا الثلاث نماذج الرئيسية:
الهيكل الرأسي (Hierarchical):
يتسم بتعدد المستويات الوظيفية، ويطول فيه مسار اتخاذ القرار. وقد عبّر عن هذه المعضلة العلمية الدكتور أحمد زويل –رحمه الله– حين أشار إلى أنه كان يحتاج إلى 18 توقيعًا للموافقة على إجراء إداري واحد، في دلالة واضحة على تعقيد القرار داخل النظم الإدارية التقليدية.
الهيكل المسطح (Flat):
يتميز بقلة المستويات الإدارية، مما يُسرّع من وتيرة اتخاذ القرار، ويُعزز التفاعل المباشر بين مستويات الإدارة المختلفة، لكنه يتطلب وعيًا مؤسسيًا عاليًا لتفادي الفوضى أو غياب التوجيه.
الهيكل المصفوفى (Matrix):
وهو يجمع بين خصائص الهيكلين السابقين، حيث تتوزع المهام والصلاحيات بين خطوط رأسية للسلطة وخطوط أفقية للتخصص، ويُستخدم عادة في المشاريع الكبيرة أو المؤسسات ذات النشاط المتعدد، ما يتطلب تكاملًا واضحًا في الأدوار وشغل جميع المواقع الوظيفية دون فراغ.
وبالتالي، فإن ترك الوظائف الشاغرة دون شغلها، خاصة في هياكل مختلطة ومعقدة، يؤدي إلى اختلال الأداء، وتكدس السلطات في يد شخص واحد قد يمارس نفوذًا فرديًا دون رقابة فعلية، ما يُضعف المنظومة ويُعيدها إلى نمط “الكل في الكل” الذي يتعارض مع مفاهيم العمل المؤسسي والحوكمة الحديثة.
نحو استدامة الشركات
غياب شغل الوظائف الشاغرة لا يحدث أحيانًا مصادفة، بل قد يتم عمدًا في بعض الحالات، مما يفتح الباب لاستفادة غير مشروعة من بعض الأفراد أو المجموعات التي تستفيد من غياب الرقابة أو التوثيق الإلكتروني. ولعل من الأمثلة الدالة على مقاومة التغيير، ما حدث في بعض الشركات حين تم شراء أنظمة ERP الحديثة لإدارة الموارد، ولكن لم تُفعّل فعليًا، بدعوى تعذر التطبيق، في حين أن السبب الحقيقي كان رغبة البعض في الاستمرار باستخدام الأساليب التقليدية القائمة على الدفاتر اليدوية، لما تتيحه من فرص لتضارب المصالح أو التحايل.
واتذكر على سبيل المثال ، عند تطبيق نظام صرف الرواتب عن طريق البنوك بدلاً من الطوابير أمام الصرّاف، حيث انتشرت الشائعات وبرزت الاعتراضات من نفس الفئة المستفيدة من الوضع القائم. وهكذا، تصبح مقاومة التغيير جزءًا من سلوك “اللوبي” الرافض لأي تطور قد يُضعف سيطرته ولما اكتشف بعد ذلك من صرف رواتب دون ان يعلم اصحابها او باسماء وهمية وغير ذلك من الطرق الغير مشروعة بعيدا عن الرقمنة والانظمة المعلوماتية.
العمل المؤسسي… ضمانة الاستدامة
العمل المؤسسي لا يعني فقط وضع هيكل تنظيمي معلّق على الجدران، بل هو ثقافة متكاملة تُجسّد الفصل بين الصلاحيات، والتسلسل الإداري، وتوزيع المسؤوليات، والحوكمة الفعالة. مؤسسة بلا عمل مؤسسي تشبه سفينة بلا دفة، ومهما كانت مواردها، فهي مهددة بالانحراف أو الغرق.
الدرجات الوظيفية الشاغرة… صمت إداري مكلف
وجود درجات وظيفية شاغرة بالاشهر بل احيانا بالسنوات، خصوصًا في المناصب المتوسطة والعليا، يعني فقدان حلقة وصل حاسمة في تنفيذ المهام. وترك هذه الدرجات شاغرة يؤدي إلى:
إرباك في اتخاذ القرار.
تحميل بعض الأفراد فوق طاقتهم.
ضياع فرص تدريب وتمكين الكفاءات.
ظهور مراكز نفوذ غير رسمية تعطل الأداء المؤسسي.
مسؤولية الإدارة التنفيذية
تقع على الإدارة التنفيذية مسؤولية أساسية أمام مجلس الإدارة والملاك، وهي:
تفعيل الهيكل التنظيمي وملء الوظائف الشاغرة وفق معايير الكفاءة.
تحقيق الأهداف الاستراتيجية والتشغيلية المعتمدة من مجلس الإدارة.
الالتزام بمؤشرات الأداء الرئيسية (KPIs) ورفع التقارير بشفافية.
تمكين الصف الثاني من القادة، بما يحقق الاستدامة والمرونة المؤسسية.
الحوكمة ودورها في التصحيح
يعتمد العمل المؤسسي الحقيقي على تطبيق مبادئ الحوكمة الرشيدة، التي تمثل الإطار المنظم لضمان الشفافية، وتحقيق العدالة، وتعزيز المساءلة داخل المؤسسة، فالحوكمة لا تقتصر على تنظيم العلاقة بين مجلس الإدارة والإدارة التنفيذية، بل تمتد لتشمل وضع معايير واضحة لتقييم الأداء، ورصد الانحرافات، ومعالجة أوجه القصور.
وفي هذا السياق، فإن مجلس الإدارة يُعد الجهة الرقابية الأعلى في المؤسسة، وهو المسؤول عن الإشراف العام وضمان الالتزام بالخطط الاستراتيجية، إلا أنه لا ينبغي له أن يتدخل في الإدارة التنفيذية اليومية، فذلك يخل بالتوازن المؤسسي ويُضعف مبدأ الفصل بين السلطات.
كما أن من مهام مجلس الإدارة الأساسية إجراء مراجعة حقيقية ودورية للهيكل التنظيمي بما يضمن توافقه مع أهداف المؤسسة وفاعليته في توزيع الأدوار والمسؤوليات. ولا يجوز ترك هذا الأمر للإدارة التنفيذية وحدها، خصوصًا إذا ترتب على ذلك إلغاء أو تجميد درجات وظيفية عليا لأسباب شخصية أو لتصفية حسابات مهنية، كأن تُلغى وظيفة رقابية أو إشرافية لمجرد أنها تُمارس دورها في متابعة الأداء وتصحيح الأخطاء.
فهذا النوع من التدخل يمثل خللًا جوهريًا في قواعد الحوكمة، ويفتح الباب أمام ترسيخ ثقافة الفردانية وتعطيل الرقابة الداخلية، بما يؤدي إلى ضعف الأداء العام وتراكم المشكلات دون محاسبة أو إصلاح. ومن ثمّ، فإن حماية الوظائف الرقابية داخل الهيكل التنظيمي هو ضمان للاستقرار المؤسسي، ويصب في مصلحة جميع الأطراف، من إدارة ومساهمين وعاملين.
التوصيات
إجراء مراجعة دورية للهيكل التنظيمي وتحديد الوظائف الشاغرة بدقة.
تفعيل نظام شفاف لتقييم الأداء والترقيات.
تمكين الصف الثاني وبناء قيادات مستقبلية مستعدة.
إرساء ثقافة العمل المؤسسي باعتبارها ركيزة للاستدامة، وليس مجرد إجراء إداري.
ختامًا
آن الأوان لإعادة النظر في بنية الإدارة داخل الشركات القابضة والتابعة، وتفعيل مبدأ فصل السلطات والمسؤوليات، وتحقيق التوازن المؤسسي المطلوب، بما يحقق المصلحة العامة ويخدم أهداف الإصلاح والتنمية المستدامة. إن استدامة الشركات لا تتحقق بالشعارات ولا بالإنجازات الفردية، بل بمنظومة متكاملة من العمل المؤسسي، يقودها هيكل منظم، وتنهض بها كوادر مؤهلة، وتُراقبها حوكمة فعالة. وكل تأخير في معالجة الشواغر الإدارية هو تأخير في تحقيق المستقبل الذي نطمح إليه.