د.م. محمد سليم يكتب..محطة بدر… شريان الطاقة العربي نحو أوروبا
الخميس 16-10-2025 16:17

د. محمد سليم
في خطوة تؤكد الأولوية التي توليها القيادة السياسية لمشروعات الطاقة الاستراتيجية، شهدت مصر مؤخرًا افتتاح محطة بدر للربط الكهربائي مع المملكة العربية السعودية بقدرة تبادلية تصل إلى 3000 ميجاوات، وذلك بحضور دولة رئيس مجلس الوزراء والسيد وزير الكهرباء والطاقة المتجددة والسيدة وزيرة التنمية المحلية والسيد محافظ القاهرة أثناء تنفيذ الاختبارات والتشغيل التجريبي. هذا الحضور رفيع المستوى يعكس بوضوح أن المشروع ليس مجرد بنية تحتية كهربائية، بل هو مشروع سيادي واستراتيجي تتعامل معه الدولة كأحد ركائز أمن الطاقة القومي وأدوات التكامل الإقليمي.
هذا المشروع العملاق لا يقتصر على كونه إنجازًا هندسيًا، بل يمثل تحولًا نوعيًا في طريقة تشغيل الشبكات على الجهد الفائق 500 ك فولت تيار مستمر، واستيعاب الطاقات المتجددة، وتطوير أسواق الكهرباء والتجارة العابرة للحدود، ويمهّد الطريق لربط العالم العربي بأوروبا في شبكة طاقة موحدة.
أولًا: مرونة غير مسبوقة في تشغيل الشبكات
يحقق الربط الكهربائي بين مصر والسعودية نقلة نوعية في طريقة إدارة وتشغيل الشبكات القومية للطاقة. فمن خلال سعة تبادلية تصل إلى 3000 ميجا وات، يمكن لكل شبكة أن تعمل بمستوى أعلى من الكفاءة والاستقرار، حيث تُصبح كل شبكة “مخزونًا استراتيجيًا” للشبكة الأخرى في أوقات الذروة أو حالات الطوارئ وتعظيم نسبة مشاركة الطاقة المتجددة.
فعلى سبيل المثال:
تستطيع مصر تصدير فائض إنتاجها في فترات انخفاض الطلب المحلي أو ارتفاع إنتاج الطاقة الشمسية والرياح نهارًا.
بينما يمكن للسعودية دعم الشبكة المصرية في أوقات الذروة المسائية عندما يرتفع حمل الاستهلاك ودون الحاجة لتشغيل وحدات توليد إضافية.
هذا التكامل في التشغيل يقلل الحاجة إلى بناء محطات احتياطية باهظة التكلفة لمجرد تغطية احمال الذروة التي تحدث عدة مرات هلال شهر اغسطس ولمدة ساعات فقط على مدار العام، مما يرفع كفاءة التشغيل الكلي، ويزيد من موثوقية واستقرار منظومتي الكهرباء في البلدين.
ثانيا: تجاوز اختلاف الذبذبة بين الشبكتين
من التحديات التاريخية التي كانت تعيق مشاريع الربط الكهربائي بين الدول العربية هو اختلاف الذبذبة (التردد) في الشبكات.
فالشبكة المصرية تعمل عند 50 هرتز كما هو الحال في أوروبا ومعظم دول آسيا وإفريقيا.
بينما الشبكة السعودية تعمل عند 60 هرتز مثل أمريكا الشمالية وبعض دول الخليج.
هذا الاختلاف يجعل الربط المباشر عبر التيار المتردد غير ممكن تقنيًا، لأنه يؤدي إلى اضطراب في الجهد وقد يتسبب في أعطال كبيرة.
الحل الذي اعتمده المشروع هو استخدام نظام التيار المستمر عالي الجهد (HVDC ±500 kV)، حيث يتم:
تحويل التيار المتردد في محطة بدر من 50 هرتز إلى تيار مستمر.
نقل التيار عبر الخط الهوائي والكابل البحري.
تحويله مرة أخرى في محطة تبوك إلى 60 هرتز ليتوافق مع الشبكة السعودية.
بهذه التقنية أصبح الربط بين شبكتين غير متزامنتين ممكنًا وآمنًا، بل وأتاح مرونة تشغيلية عالية وتحكمًا دقيقًا في تدفقات الطاقة واتجاهها.
ثالثا: دعم التوسع في الطاقات المتجددة
أحد أهم التحديات التي تواجه التوسع في الطاقات المتجددة هو طبيعتها المتقطعة (Intermittency) الناتجة عن تغيرات الإشعاع الشمسي وسرعة الرياح في كلا الشبكتين. الربط الكهربائي عبر محطة بدر يوفر الحل الأمثل لهذا التحدي، إذ يتيح:
تصدير الفائض من الكهرباء المتجددة إلى الشبكة الأخرى بدلًا من تقليص الإنتاج (Curtailment).
استيراد الكهرباء وقت انخفاض إنتاج الطاقة المتجددة محليًا، ما يضمن توازن العرض والطلب دون الاعتماد على محطات الوقود الأحفوري.
تمكين إدخال نسب أعلى من الطاقة المتجددة في المزيج الطاقي دون التأثير على استقرار الشبكة.
وبهذا، يصبح الربط الكهربائي عنصرًا أساسيًا في استراتيجية التحول الطاقي (Energy Transition)، ويُسهم في تقليل الانبعاثات الكربونية وتحقيق أهداف الاستدامة الوطنية والإقليمية.
رابعا: نحو سوق كهرباء عربية موحدة وتجارة عبر الحدود
مع اكتمال الربط المصري – السعودي، تتجاوز الفائدة حدود التشغيل الفني إلى آفاق اقتصادية وتجارية أوسع. هذا المشروع يمهد الطريق لإنشاء سوق كهرباء عربية موحدة ترتبط لاحقًا بأوروبا عبر الكابل المصري – اليوناني، ما يسمح بتجارة الكهرباء عبر القارات.
في هذا النموذج الجديد:
تُباع الكهرباء حسب السعر الفوري (Spot Price) أو بعقود ثنائية طويلة الأجل بين الدول والمؤسسات.
تتحول الدول ذات الفائض إلى مصدّر للطاقة النظيفة، بينما تحصل الدول ذات العجز على إمدادات مستقرة بأقل تكلفة.
تظهر فرص استثمارية ضخمة في محطات توليد جديدة، وشبكات نقل، وأنظمة تخزين طاقة، وأسواق مرنة لتجارة الكهرباء.
إن بناء هذا السوق الإقليمي سيُحوِّل الطاقة من مجرد سلعة محلية إلى أداة استراتيجية للأمن القومي والتكامل الاقتصادي.
خامسا: كل شبكة “مخزون استراتيجي” للأخرى
من أهم المكاسب التي يحققها الربط الكهربائي هو تحويل الشبكتين المصرية والسعودية إلى ما يشبه خزّان الطاقة المتبادل. فكل شبكة قادرة على:
تعويض نقص الطاقة في الأخرى ضمن حدود السعة المتفق عليها (3000 ميجا وات).
تقليل مخاطر الانقطاعات الطارئة عبر الدعم المتبادل الفوري.
تحسين جودة التغذية الكهربائية وخفض معدلات فقد الطاقة.
هذا المفهوم الاستراتيجي يقلل بشكل كبير من المخاطر التشغيلية، ويرفع مستوى الأمن الطاقي لكلا البلدين.
نحو المستقبل: ربط الخليج بأوروبا عبر مصر
محطة بدر ليست نهاية الطريق، بل هي البداية لمسار جديد في جغرافيا الطاقة، فمع توسع الشبكة السعودية وربطها بشبكات الخليج العربي، ثم ربط مصر بأوروبا عبر المتوسط، سنكون أمام أول ممر طاقة كهربائي عربي – أوروبي قادر على نقل الكهرباء النظيفة من الصحراء العربية إلى قلب أوروبا.
هذا التكامل سيجعل العالم العربي ليس فقط مستهلكًا للطاقة، بل مُصدرًا ومخزونًا استراتيجيًا لها، وسيمنح دول المنطقة مكانة محورية في خريطة تجارة الكهرباء والهيدروجين الأخضر عالميًا.
الملخص
إن الاهتمام الرئاسي والحكومي الذي حظي به مشروع محطة بدر – والمتمثل في حضور دولة رئيس مجلس الوزراء والسيد وزير الكهرباء وقيادات الدولة التشغيل التجريبي ومتابعة تفاصيل التنفيذ ميدانيًا – يعكس قناعة واضحة بأن هذا المشروع ليس مجرد خط كهربائي، بل مشروع سيادي واستراتيجي يمثل ركيزة في بناء منظومة طاقة عربية عابرة للحدود.
افتتاح محطة بدر يمثل تحولًا في طريقة تشغيل الشبكات، وفتحًا واسعًا أمام الطاقات المتجددة، وبداية حقيقية لسوق إقليمية لتجارة الكهرباء، حيث تتحول كل شبكة إلى “مخزون استراتيجي” للأخرى. إنه مشروع يُترجم إرادة الدولة المصرية في أن تكون جسر الطاقة العربي نحو أوروبا، وأن تتحول من مجرد دولة عبور إلى مركز إقليمي للطاقة يربط بين القارات ويصنع المستقبل.