د. محمد سليم يكتب ..تحرير سوق الكهرباء والغاز في مصر. بين النصوص القانونية وتحديات التطبيق المؤسسي
الثلاثاء 17-06-2025 11:42

أصدرت مصر خلال العقد الماضي حزمة من التشريعات المهمة لتحرير أسواق الطاقة، كان في مقدمتها قانون الكهرباء رقم 87 لسنة 2015، ثم قانون تنظيم أنشطة سوق الغاز رقم 196 لسنة 2017، في إطار رؤية أوسع للتحول إلى اقتصاد طاقة تنافسي ومستدام.
لكن رغم توافر الأطر التشريعية، لا تزال منظومة الطاقة المصرية تُدار حتى اليوم في معظمها وفق قواعد المركزية والتدخل الحكومي شبه الكامل، مع تأخر واضح في التفعيل المؤسسي الحقيقي لآليات السوق الحر.
ومع تصاعد الأزمات الإقليمية، خاصة بعد وقف صادرات الغاز الإسرائيلي وتعليق الإنتاج في حقول كاريش وليفياثان نتيجة التصعيد بين تل أبيب وطهران، زادت حدة التحديات التي تواجهها الدولة في تأمين إمدادات الطاقة واستقرار السوق المحلي.
في هذا المقال نستعرض ملامح الأزمة، وأسباب التعثر في تنفيذ الإصلاح المؤسسي، ثم نطرح رؤية متكاملة لمسار إصلاح مستقبلي واقعي وعملي.
أولاً: تشخيص الواقع الحالي
1- التشريعات متقدمة والتطبيق المؤسسي متأخر
صدرت القوانين المنظمة، لكن لم تواكبها عملية هيكلة مؤسسية حقيقية، وظلت أدوار الدولة مختلطة بين المنظم والمشغل والمالك والمستثمر.
تركزت قوى المصالح داخل الهياكل القديمة التي استفادت لعقود من آليات الدعم والاحتكار الجزئي للعقود والأسعار المضمونة من الحكومة ونقطة شراء واحدة.
ضعف الحوكمة وغياب الشفافية والمساءلة عزز من بطء التنفيذ الفعلي لأهداف السوق المفتوح.
2- إشكالية الغاز: هل لدينا غاز أم لا؟
ظل سؤال جوهري يطرح نفسه طوال السنوات الماضية: هل تمتلك مصر فعلاً وفرة من الغاز الطبيعى ؟
ففي الوقت الذي أعلن فيه وزير البترول الأسبق المهندس سامح فهمي أن مصر “تعوم على بركة من الغاز”، إلا أن الواقع الإنتاجي اختلف جذريًا خلال السنوات الأخيرة.
تراجع الإنتاج المحلي تدريجيًا نتيجة نضوب بعض الحقول القديمة، مع تباطؤ الاستكشافات الجديدة بالوتيرة المتوقعة.
في الوقت ذاته، ومع توقيع عقود استيراد الغاز من الشرق، إسرائيل، دخلت الدولة في دائرة من الاعتماد التدريجي على الغاز المستورد، بل وارتفعت لاحقًا الكميات المستوردة من نفس المصدر، مما ضاعف من المخاطر في حالة حدوث توقف مفاجئ نتيجة للاضطرابات الجيوسياسية والحروب كما نشهده حالياً.
هذا النمط خلق هشاشة في منظومة أمن الطاقة القومي رغم وجود بنية تحتية متطورة على المستوى الفني والتقني.
ولا يُستبعد أن يكون من بين أسباب تأخير تفعيل تحرير سوق الغاز استمرار الاعتماد على مصادر إمداد محددة، وهو ما برز بوضوح مؤخرًا بعد إعلان توقف الإمدادات من الغاز الإسرائيلي إلى مصر، الأمر الذي شكل تحدياً إضافياً أمام أمن الطاقة الوطني، ويفرض ضرورة تسريع إجراءات ترشيد الاستهلاك وتعظيم الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة، وعلى رأسها الطاقة الشمسية، لتفادي الدخول في برامج أوسع لتخفيف الأحمال الكهربائية.
ونظرا لأن واردات الغاز من إسرائيل كانت تغطي نحو 15% من الغاز المستورد ، وهي نسبة مؤثرة في مزيج الطاقة الوطني ولما حدث فى الماضى القريب لتعطل هذا المصدر لساعات كادت ان تدفع الى تخفيف الاحمال فقد تحركت الدولة المصرية، ممثلة في وزارة البترول، بشكل سريع بشراء نحو 150 شحنة من الغاز الطبيعي المسال من السوق العالمي، بقيمة إجمالية تقدر بحوالي 8 مليارات دولار، بهدف سد الفجوة وضمان استمرارية الإمدادات.
إلا أن عملية التغويز وإعادة تحويل هذه الكميات إلى الحالة الغازية تواجه تحديات فنية وجغرافية معقدة مع المنصات البحرية بسبب مايحدث من اضطرابات وحروب في كل من البحرين الأبيض المتوسط والأحمر، مما يفرض أعباء إضافية على العمليات اللوجستية والانتقالات .
3- لماذا تعثّر تحرير سوق الغاز رغم صدور قانونه؟
رغم صدور قانون تنظيم سوق الغاز عام 2017، فإن التنفيذ ظل محدوداً، بعكس قطاع الكهرباء الذي وإن كان يسير ببطء، إلا أن وزارة الكهرباء بدأت فعليًا في اتخاذ خطوات جادة نحو التحرير المؤسسي الجزئي:
تحديث جهاز تنظيم مرفق الكهرباء المستقل.
صدور رخص وتعريفات ولوائح للمنتجين والمستهلكين المباشرين.
إطلاق عدد محدود من عقود الشراء المباشر (P2P) بين منتجين ومستهلكين مؤهلين طبقا للقانون.
أما في سوق الغاز، فقد ظل المشغل الرئيسي يسيطر على كافة مراحل الإنتاج والاستيراد والتوزيع، في ظل غياب منظومة مستقلة للفصل بين الأدوار وتشجيع دخول لاعبين جدد أو شركات توريد خاصة.
4- الاعتماد على الحلول الطارئة بدل الاستراتيجيات المستدامة
انشاء استراتيجيات استباقية لإدارة الطلب ومخاطر الإمدادات مركزيا ودون مشاركة القطاع الخاص من خلال مناقصات تتحلى بالشفافية.
يتم اللجوء عند كل أزمة إلى حلول مكلفة عبر الشراء الفوري بأسعار باهظة من الأسواق الدولية ويتم بيعه الى السوق المحلى بسعر حاكم مما يحمل الدولة اعباء الدعم المالى.
المثال الأوضح ما حدث مؤخرًا بشراء 150 شحنة غاز مسال بقيمة تقدر بحوالي 8 مليارات دولار خلال أشهر قليلة فقط لتغطية فجوة الإمدادات الناتجة عن وقف الإمدادات من الشرق .
مع تجهيز وحدات تغويز لمواجهة الطوارئ لكن مع بقاء عبء الاستيراد كبيراً.
تصدير كمية من الغاز يوميا الى الاردن لمجابهة النقص فى الغاز ايضا .
5- الاكتشافات المحلية ما زالت غير كافية لسد الفجوة
ورغم بعض الاكتشافات الإيجابية مثل الكشف الأخير في حقل أبو سنان (إنتاج أولي 1400 برميل نفط يوميًا، ومليون قدم مكعب غاز يوميًا)، إلا أن هذه الاكتشافات لا تزال محدودة التأثير على المزيج الكلي للطاقة.
ثانياً: المخاطر المترتبة على استمرار الوضع الحالي
تصاعد العبء المالي على الموازنة العامة.
تراجع تنافسية الاقتصاد نتيجة ارتفاع تكاليف الإنتاج.
زيادة الضغط على العملات الأجنبية بفعل ارتفاع فاتورة الطاقة المستوردة.
اتساع الفجوة بين الحاجة الملحة للإصلاح والمصالح المستفيدة من الإبقاء على المركزية والتحكم.
ثالثاً: محاور الإصلاح المستقبلي العاجل
1️⃣ الإصلاح المؤسسي العميق
إعادة الهيكلة المؤسسية طبقا لقواعد الحوكمة واليات تحرير السوق لكل من قطاعي الكهرباء والغاز، والفصل الصارم بين الأدوار.
تفعيل أجهزة تنظيمية مستقلة بصلاحيات فعلية لمراقبة الأسواق وضمان المنافسة العادلة لا الشكلية.
2️⃣ تعظيم الإنتاج المحلي
تسريع أنشطة الاستكشاف والتطوير في الحقول البرية والبحرية ودعوة الاستثمارات الوطنية فى هذا المجال.
تحفيز الشراكات الأجنبية بجذب شركات كبرى بخطط طويلة الأجل مع وضوح العقود ومراجعتها .
3️⃣ تنمية الطاقة المتجددة وكفاءة الاستهلاك
توسيع برامج الطاقة الشمسية اللامركزية الفوتوفولتية والحرارية على أسطح المنازل والمجمعات الصناعية.
رفع كفاءة الطاقة في الصناعة والخدمات والنقل وتعيين مسئول الطاقة طبقا للقانون.
انشاء صندوق لدعم الطاقة الشمسية وبرامج كفاءة الطاقة
4️⃣ تنويع سلاسل الإمداد
تعزيز البنية التحتية للتخزين والنقل والتغويز ورفع الجاهزية التشغيلية والتنسيق بين توفر الغاز المسال مع امكانيات التغويز .
5️⃣ آليات تسعير عادلة وشفافة
تحرير الأسعار تدريجياً مع حماية الفئات المستحقة من خلال منظومة دعم نقدي موجه.
الإفصاح الكامل عن تكلفة الخدمة الحقيقية بشفافية.
رابعاً: الفرص الكامنة رغم التحديات
موقع مصر الجغرافي يؤهلها لتكون مركزاً محورياً لتجارة الطاقة في شرق المتوسط وأفريقيا.
بنية تحتية متطورة تؤهلها للربط مع أسواق أوروبا وآسيا.
مصادر متجددة واعدة في الطاقة الشمسية والرياح والهيدروجين الأخضر.
خاتمة الرؤية
إن استمرار تأخر إصلاح سوق الغاز مقارنة بالكهرباء يُمثل أحد أهم مكامن الخطر في منظومة أمن الطاقة المصرية.
ما زالت الفرصة قائمة إذا توفرت الإرادة السياسية الحقيقية للانتقال من مرحلة “إدارة الأزمات” إلى “إدارة السوق”.
فالإصلاح المؤسسي الجذري وحده القادر على تحقيق:
✅ الاستدامة الاقتصادية وتأمين الإمدادات
✅ جذب الاستثمارات و تمكين القطاع الخاص
✅ تخفيف العبء عن الموازنة والمواطن.
د. محمد سليم سالمان
رئيس قطاع المراقبة المركزية للاداء بكهرباء مصر سابقا
عضو المجلس العربى للطاقة المستدامة
القاهرة ، فى 15/ 6/ 2025